كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فَعَبَّرَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ بِالشَّهَادَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا سُلِبَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حُكْمَ الشَّهَادَاتِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكِمُ الْأَيْمَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَثْبَتَ قَوْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَكْرَارَ لَفْظِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَرَنَهُ بِاللِّعَانِ وَالْغَضَبِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ وَصَلَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَا لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ كَانَ شَهَادَةً، فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ اللِّعَانِ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ، وَأُولِي بِاللَّهِ. كَمَا يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ- لِأَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي الْيَمِينِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ مُتَوَجِّهًا، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَنَ لَفْظَ الشَّهَادَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الشَّهَادَاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأُلْحِقَ بِالْأَيْمَانِ الْمُضَافَةِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ قَدْ يَرْفَعُ حُكْمَ الْقَذْفِ كَالْبَيِّنَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ يَرْفَعُ حُكْمَ الْقَذْفِ وَلَا يَكُونُ بَيِّنَةً. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا يَحْيَى السَّاجِيَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَإِذَا قَالَ إِمَامٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ هَذَا، سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَلَيْسَتِ الْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا حُجَّةً، وَذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَجَدَّهُ الْأَدْنَى لَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، فَإِذَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ جَدُّهُ الْأَدْنَى، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ مُرْسَلًا لَا يَلْزَمُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّنَا نُسَلِّمُ الْحَدِيثَ، وَنَحْمِلُ قَوْلَهُ: لَا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعٍ، إِلَّا عِنْدَ حَاكِمٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَغَيْرُهُمْ لَا يَجُوزُ لِعَانُهُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَمَا فَائِدَةُ التَّخَصُّصِ؟ قِيلَ: فَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ فِيهِمْ- لِنَقْصِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالرِّقِّ- جَوَازُ لِعَانِ الْعَبْدِ عِنْدَ سَيِّدِهِ، وَلِعَانِ الْكَافِرِ فِي أَهْلِ دِينِهِ، فَنَفَى النَّصُّ هَذَا التَّوَهُّمَ، عَلَى أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ قَالَ: لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّغِيرَةِ: فَهُوَ أَنَّ لِلصَّغِيرَةِ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، فَاللِّعَانُ فِيهَا يَصِحُّ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى بُلُوغِهَا، لِأَنَّ قَذْفَهَا بِالزِّنَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً لَا يُمْكِنُ وَطْءُ مِثْلِهَا، فَالْقَذْفُ هُنَا مُسْتَحِيلٌ لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِ، فَخَرَجَ عَنِ الْقَذْفِ الْمُحْتَمِلِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَإِذَا اسْتَحَالَ صِدْقُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ كَمَنْ يَجُوزُ صِدْقُهُ، فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ؛ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ لِعَانُ الزَّوْجِ يَمِينٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ؛ وَكَالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لِوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا، وَالشَّهَادَةُ تُسْمَعُ عَلَى الْكَافِرَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ، فَكَذَا اللِّعَانُ.
فصل: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ اللِّعَانِ يَمِينًا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ كَمَا يَصِحُّ مِنَ الْحُرَّيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ، وَكَذَلِكَ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ لَزِمَهَا الْفَرْضُ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: جَازَ طَلَاقُهُ، أَيْ: كَانَ مُكَلَّفًا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ، فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِعَانُهُ، وَقَوْلُهُ: وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ، أَرَادَ بِهِ التَّكْلِيفَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَتَيْنِ فَسَّرَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ لِعَانُهَا لَا يَصِحُّ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُكَلَّفَةٍ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُلَاعِنَ الزَّوْجُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلِعَانُهُمْ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ، لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ فِيهِ وَلَا الْفُرْقَةُ وَنَفْيُ الْوَلَدِ وَهَذَا صَحِيحٌ، لَيْسَ يَخْتَلِفُ اللِّعَانُ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ كَمَا تَخْتَلِفُ حُدُودُ الْقَذْفِ، وَلَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ كَمَا تَخْتَلِفُ الْحُدُودُ وَالطَّلَاقُ. وَجَمِيعُهُمْ فِي صِفَةِ اللِّعَانِ وَأَحْكَامِهِ سَوَاءٌ، ثُمَّ قَالَ: وَتَخْتَلِفُ الْحُدُودُ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهَذَا صَحِيحٌ، إِنَّمَا يَخْتَلِفُ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الْمَقْذُوفِ بِالْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ كَامِلًا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَجَبَ عَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا بِالرِّقِّ أَوِ الْكُفْرِ، يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَيَلْزَمُ التَّعْزِيرُ، وَيَخْتَلِفُ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الْقَاذِفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِنْ كَانَ حُرًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْكَامِلُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْحَدِّ أَرْبَعُونَ جِلْدَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَسَوَاءٌ قَالَ: زَنَتْ أَوْ رَأَيْتُهَا تَزْنِي أَوْ يَا زَانِيَةُ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَوَاءٌ إِذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، كُلُّ قَذْفٍ أَوْجَبَ الْحَدَّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ كَانَ قَذْفًا يَجُوزُ بِهِ اللِّعَانُ مِنَ الزَّوْجَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَقَوْلِهِ: رَأَيْتُهَا تَزْنِي، أَوْ كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ كَقَوْلِهِ: قَدْ زَنَتْ، أَوْ يَا زَانِيَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا أَنْ يَقْذِفَهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ إِنْ كَانَتْ حَائِلًا، وَيَجُوزُ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ وَالْعَجْلَانِيَّ قَذَفَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَقَالَ هِلَالٌ: رَأَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي. فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ، فَكَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى سَبَبِهَا، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ كَالشَّهَادَةِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ وَوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ فِيهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَالشَّهَادَةِ. وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الْآيَةَ، فَاقْتَضَى حُكْمُ الْعُمُومِ أَنْ يَصِحَّ اللِّعَانُ مِنْ كُلِّ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ، فَإِنْ قَالُوا: اللَّفْظُ الْعَامُّ وَارِدٌ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ. وَالِاعْتِبَارُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، قِيلَ: هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ عِنْدَنَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبَبَ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا وَلَا حُكْمَ ثُمَّ وَرَدَ اللَّفْظُ فَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ، فَكَانَ اعْتِبَارُ مَا وُجِدَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ مَا لَمْ يُوجَدِ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ إِنَّمَا يَقَعُ بِمَا يُنَافِي اللَّفْظَ وَلَا يَقَعُ بِمَا يُوَافِقُهُ، وَالسَّبَبُ مُوَافِقٌ لَهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُخَصَّصًا، وَلِأَنَّ كُلَّ قَذْفٍ صَحَّ بِهِ اللِّعَانُ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، صَحَّ بِهِ اللِّعَانُ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ كَالْحَامِلِ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَذْفٍ صَحَّ بِهِ لِعَانُ الْحَامِلِ صَحَّ بِهِ الْحَائِلُ قِيَاسًا عَلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ. وَلِأَنَّ لِعَانَ الْأَعْمَى صَحِيحٌ وَإِنِ اسْتَحَالَ مِنْهُ الشَّهَادَةُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ.
فصل: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اللِّعَانِ بِكُلِّ قَذْفٍ وَجَبَ بِمِثْلِهِ الْحَدُّ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَائِلًا أَوْ حَامِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا غَيْرَ ذَاتِ حَمْلٍ فَيَنْقَسِمُ حَالُهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَقْذِفَهَا وَيُلَاعِنَ مِنْهَا، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَرَاهَا تَزْنِي، وَإِمَّا أَنْ تُقِرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا، وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِزِنَاهَا ثِقَةٌ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ. وَإِمَّا أَنْ يَسْتَفِيضَ فِي النَّاسِ أَنَّهَا تَزْنِي وَيَرَى مَعَ هَذِهِ الِاسْتِفَاضَةِ رَجُلًا قَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فِي أَوْقَاتِ الرِّيَبِ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ صِدْقُ الِاسْتِفَاضَةِ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعِ أَنْ يَقْذِفَهَا بِالزِّنَا وَيُلَاعِنَ مِنْهَا، فَإِنْ أَمْسَكَ عَنْ قَذْفِهَا وَلِعَانِهَا جَازَ، وَكَانَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَحَالِ الْإِبَاحَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: «طَلِّقْهَا»، قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ: «فَأَمْسِكْهَا»، فَأَبَاحَ إِمْسَاكَهَا مَعَ مَا كَنَّى عَنْهُ مِنْ زِنَاهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْذِفَهَا وَلَا أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا وَهِيَ الْعَفِيفَةُ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَرَهَا تَزْنِي وَلَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا، وَلَا اسْتَفَاضَ فِي النَّاسِ زِنَاهَا وَلَا أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِزِنًا، فَلَا يَحِلُّ لَهُ قَذْفُهَا، وَلَا أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النُّورِ: 11]. نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْإِفْكِ عَلَى عَائِشَةَ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا-، وَحُكْمُهَا عَامٌّ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِ قَذْفِهَا وَلِعَانِهَا، وَهُوَ أَنْ يَسْتَفِيضَ فِي النَّاسِ زِنَاهَا، وَلَا يَرَى مَعَ الِاسْتِفَاضَةِ رَجُلًا يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهَا اللعان، فَفِي جَوَازِ قَذْفِهَا، وَلِعَانِهَا وَجْهَان:
أحدهما: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً. وَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِفَاضَةُ لَوْثًا فِي الْقَسَامَةِ يُحْلَفُ بِهَا عَلَى الْقَتْلِ، جَازَ أَنْ تَكُونَ مِنْ شَوَاهِدِ الْقَذْفِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْذِفَهَا بِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفَاضَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَشْتَهِرَ عَنْ قَوْلٍ وَاحِدٍ يَتَخَرَّصُ عَلَيْهَا بِالْكَذِبِ. وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَظْهَرُ عِنْدِي، فَأَمَّا إِنْ رَأَى رَجُلًا يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهَا الزوج الملاعن لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْذِفَهَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لِحَاجَةٍ أَوْ رُبَّمَا وَلَجَ عَلَيْهَا فَلَمْ تُطِعْهُ، فَهَذَا حُكْمُ الْحَائِلِ.
فصل: أَمَّا الْحَامِلُ فَيَنْقَسِمُ حَالُهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا بِغَيْرِ قَذْفٍ، وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا لِيَنْفِيَ وَلَدًا يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ حَتَّى لَا يُلْحِقَهُ بِالْفِرَاشِ فَيَخْتَلِطَ بِنَسَبِهِ مَنْ لَا يُنَاسِبُهُ، وَيَجْعَلَهُ مَحْرَمًا لِبَنَاتِهِ وَهُنَّ أَجْنَبِيَّاتٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ وَإِنْ لَمْ يَقْذِفْ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ قَبْلَهُ أَوْ أُكْرِهَتْ عَلَى نَفْسِهَا فَلَا تَكُونُ زَانِيَةً. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مُلَاعَنَتُهَا لَكِنْ بَعْدَ الْقَذْفِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا وَاسْتَبْرَأَهَا وَوَجَدَ مَعَهَا رَجُلًا يَزْنِي بِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِحَمْلٍ بَعْدَهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا لِئَلَّا يَدْخُلَ نَسَبَهُ مَنْ لَا يُنَاسِبُهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا أَنْ يَقْذِفَ، فَيَصِيرُ الْقَذْفُ لِوُجُوبِ اللِّعَانِ الَّذِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَلَوْلَا الْحَمْلُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُلَاعِنَهَا أَوْ يُمْسِكَ، وَهُوَ أَنْ يَطَأَهَا وَلَا يَسْتَبْرِيَهَا، وَيَرَى رَجُلًا يَزْنِي بِهَا، فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ اللِّعَانِ بَعْدَ الْقَذْفِ أَوِ الْإِمْسَاكِ، فَأَمَّا نَفْيُ الْوَلَدِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ جَازَ أَنْ يَنْفِيَهُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَهُ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جَازَ أَنْ يُغَلِّبَ فِي نَفْيِهِ حُكْمَ الشَّبَهِ لِأَجْلِ مَا شَاهَدَ مِنَ الزِّنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلشَّبَهِ فِي زَوْجَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ وَضَعَتْ وَلَدَهَا تَأْثِيرًا وَقَالَ: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ مُلَاعَنَتُهَا وَلَا نَفْيُ وَلَدِهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِصَابَتِهَا وَلَا يَرَاهَا تَزْنِي، وَلَا يُخْبَرُ عَنْهَا بِالزِّنَا، وَلَا يَرَى فِي وَلَدِهَا شَبَهًا مُنْكَرًا، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لِعَانُهَا وَنَفْيُ وَلَدِهَا لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ هُوَ يَرَاهُ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ مُلَاعَنَتِهَا: أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ مِنْ بَيْنِ أَبْيَضَيْنِ، أَوْ أَبْيَضَ مِنْ بَيْنِ أَسْوَدَيْنِ وَلَا يَرَاهَا تَزْنِي، وَلَا يُخْبَرُ بِزِنَاهَا، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهَا وَنَفْيِ وَلَدِهَا بِهَذَا الشَّبَهِ وَجْهَان:
أحدهما: يَجُوزُ لِعَانُهَا وَنَفْيُ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا فَلَا أَرَاهُ إِلَّا وَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، فَجَعَلَ لِلشَّبَهِ تَأْثِيرًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا، وَلَا أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَهَا، لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فَزَارَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنَّى تَرَاهُ؟ قَالَ: عَنْ أَنْ يَكُونَ عِرْقًا نَزَعَهُ، فَقَالَ: كَذَلِكَ هَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ عِرْقًا نَزَعَهُ. أَيْ عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي آبَائِهِ مَنْ رَجَعَ بِهَذَا الشَّبَهِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة: قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطِّلَاقِ إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ، وَلَوْ جَاءَتْ بِحَمْلٍ وَزَوْجُهَا صَبِيٌّ دُونَ الْعَشْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُحِيطُ أَنَّهُ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ وَأَكْثَرَ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُولَدَ لَهُ كَانَ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ، أَوْ يَمُوتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَيَكُونَ وَلَدَهُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ أَقَلِّ الزَّمَانِ الَّذِي يَحْتَلِمُ فِيهِ الْغِلْمَانُ وَهُوَ عَشْرُ سِنِينَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً اعْتِبَارًا بِالْوُجُودِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرَ غُلَامًا احْتَلَمَ لِأَقَلَّ مِنْهَا بِدَلِيلِنَا عَلَيْهِ وُرُودُ السُّنَّةِ بِاعْتِبَارِ الْعَشْرِ فِي أَحْكَامِ الْبُلُوغِ. وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مُرُوهُمْ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشَرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» وَلِأَنَّ أَقَلَّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ، وَقَدْ وُجِدَ مَنِ احْتَلَمَ لِعَشْرٍ وَإِنْ نَدَرَ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ حَدًّا لِأَقَلِّهِ كَالْحَيْضِ لِتِسْعٍ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وُلِدَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَوْ وُجِدَ مَنِ احْتَلَمَ لِأَقَلَّ مِنْهَا فَجَعَلْنَاهُ حَدًّا، لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ، كَمَا لَمْ تُوجَدْ مَنْ تَحِيضُ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعٍ وَلَوْ وُجِدَتْ لَصَارَتْ حَدًّا، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ صَارَ أَقَلُّ زَمَانِ الْحَيْضِ تِسْعًا وَأَقَلُّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ عَشْرًا. قِيلَ: قَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيَجْعَلُ أَقَلَّ زَمَانِهِمَا تِسْعَ سِنِينَ، وَيَحْمِلُ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَشْرِ عَلَى أَنَّهَا حَدُّ لُحُوقِ الْوَلَدِ تَقْرِيبًا لِأَقَلِّ زَمَانِهِ وَإِنْ قَلَّ الِاحْتِلَامُ عَلَى التَّحْقِيقِ لِتِسْعِ سِنِينَ كَالْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْبُلُوغِ بِالسِّنِينَ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْبُلُوغِ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ لِتِسْعِ سِنِينَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَاءَتِ امْرَأَةُ الْغُلَامِ بِوَلَدٍ لِتِسْعِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ التِّسْعِ- هِيَ مُدَّةُ أَقَلِّ الْحَمْلِ- لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مُتَقَدِّمُوهُمْ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ عَشْرُ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلُّ زَمَانِ الْحَيْضِ تِسْعًا لِأَنَّ أَقَلَّهَا مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ، وَقَدْ وُجِدَ الْحَيْضُ لِتِسْعٍ وَلَمْ يُوجَدِ الِاحْتِلَامُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشْرٍ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْوُجُودِ، ثُمَّ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ يُرْخِيهِ الرَّحِمُ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ لِضَعْفِ الْجَسَدِ عَنْ إِمْسَاكِهِ، وَمَنِيُّ الِاحْتِلَامِ يَخْرُجُ لِقُوَّةِ الْجِسْمِ عَنْ دَفْعِهِ فَصَارَ بَيْنَهُمَا شَبَهٌ لِزِيَادَةِ الْقُوَّةِ بِهِمَا.